“السراي القديم”… مصطلح لا يزال يستعمله أهالي زحلة للدلالة على مبنى بلدية زحلة. مبنى حجري قديم يكلله القرميد الأحمر، يتربّع باعتزاز تحت أعين سيدة زحلة والبقاع. فالمبنى هو بمثابة دليل او تقاطع طرق لكل ضيف يقصد حارة مارمخايل، حارة الراسية، حارة مارالياس، تمثال العذراء، ضهور زحلة، مستشفى تل شيحا، حوش الأمراء وبيادر زحلة. ما كان يعرف بالسراي القديم يواجه بخط عامودي السراي الجديد في وسط المدينة. من يمرّاليوم أمام مبنى بلدية زحلة يلحظ ورشة ترميم شاملة بوشر العمل فيها خلال شهر حزيران الماضي، أي بعد اقل من شهر من تاريخ تسلم المجلس البلدي الجديد مهامه برئاسة المهندس أسعد زغيب.
فما هو تاريخ هذا المبنى العريق؟ ما هي خصائصه المعمارية؟ وماذا تشمل ورشة الترميم؟ للاجابة عن هذه الأسئلة لا بد من العودة الى تاريخ عريق مجبول بعرق جبين أهالي زحلة وهيمنة الدولة العثمانية مروراً باستقلال لبنان وصولاً الى ولاية بلدية زحلة 2016.
تاريخ السراي القديم:
عاصرت زحلة ثمانية متصرفين، توالوا على حكم جبل لبنان، إضافة الى ثلاثة آخرين، تفرّد الباب العالي بتعيينهم، أثناء الحرب العالمية الأولى، خلافا للأصول التي نص عليها نظام المتصرفية، وقد كانت علاقة زحلة بالمتصرفين متقلبة وخاضعة لاهتماماتهم بها، وتدخلاتهم في شؤونها، يغلب عليها التحفظ، بسبب هذا المسيحي المتردّي برداء الباشا التركي، خصوصا ان معظم المتصرفين كانوا من الأمة الأرمنية، الأمة المنافسة المزمنة للأمة الرومية بطائفتيها: الروم الكاثوليك والروم الأرثوذكس. يستهل الدكتور خير قبلان المرّ بهذا الكلام في كتابه (تاريخ زحلة السياسي 1860 – 1920) حول علاقة زحلة بالمتصرفين. ويتابع بما معناه ان هؤلاء المتصرفين قد دأبوا على إرضاء السلطان العثماني ولو على حساب الشعب اللبناني أحيانا لكن بعضهم لم يمتنع عن الاهتمام بهذا الشعب وطلباته. وكانوا يقومون بجولات استطلاعية الى كل أقضية المتصرفية للاطلاع عن كثب على مشاكل الشعب ومتطلباته. وهكذا زار المتصرفون جميعاّ زحلة، وبعضهم زارها لأكثر من مرة. كما تبيّن محفوظات مطرانية الروم الكاثوليك، بحسب الدكتور خير.
وبحسب أرشيف بلدية زحلة: … عام 1885، بوشر ببناء سراي زحلة، في عهد واصا باشا، وقائمقامية اسكندر الحداد. أتى ذلك بعد ان أنهت شركة فرنسية شقّ طريق العربات بين بيروت ودمشق ومدّ فرع منه الى زحلة، فسارت العربة بينها وبين بيروت للمرة الأولى. وبعد ازدهار المنطقة أصبح وجود سراي ضرورة، ليكون سراي زحلة أول سراي في لبنان يبنى كسراي، لأن باقي السرايات كانت قصورًا لأمراء اشترتها الدولة لتحولها الى سرايات. وقد ضحى الزحليون مدة ثلاث سنوات من أجل رفع بنائه الذي دشنه واصا باشا بتاريخ 11 تشرين الأول عام 1888 في احتفال رسمي مهيب. وقد سمي آنذاك “دار الحكومة”، بناه المعماري الزحلي نقولا قرعوني ونقش على بابه تأريخًا شعريًا (أبيات شعرية تؤرخ لحدث معيّن) بقلم الدكتور بشارة زلزل اللبناني، ما زال حتى اليوم.
ويتابع الدكتور المرّ، في كتابه، حول نشأة بلدية زحلة: لم يحمل “النظام الأساسي” أية اشارة الى وجوب أنشاء قومسيونات بلديّة في جبل لبنان، ولكن الظروف التي رتبتها أحداث عام 1860، أوجبت إقامة مثل هذه القومسيونات من أجل الاهتمام بالشؤون العامة وتلبية الحاجات المستجدّة، فارتبط إنشاء هذه المجالس برغبة الأهالي، وموافقة المتصرف ومجلس الأدارة.
في زحلة، وقبل صدور “نظام إدارة الولايات العمومية”، عام 1871، الذي أوجب في المادة 111 منه، ضرورة تشكيل مجلس بلدي للنظر في الأمور البلدية في المدينة أو القصبة التي تكون مركز الولاية أو اللواء أو القضاء، أبدى الزحليون رغبة في تحويل مدينتهم مجلساً بلديّاً يدير شؤون المرافق المحليّة والحيوية في البلدة.
وبعد سلسلة من الأحداث والعقبات التي واجهها الزحليون، والتي يسردها الدكتور المرّ، من أجل الحصول على مرادهم، صدر في 24 كانون الأول 1878 القرار الرسمي بانشاء ستة مجالس بلدية في كل من زحلة، جونيه، طبرجا، العقيبة، جبيل والبترون.
وهكذا أصبح لزحلة بلدية، يشغل أعضاء مجلسها ورئيسهم غرفة في مبنى سراي زحلة. المبنى الذي يشغله القائمقام، الشرطة، وجميع الدوائر الرسمية ليصبح في عهد الانتداب مركزا للجيش الفرنسي. ويكشف الرئيس الحالي لبلدية زحلة – معلقة وتعنايل المهندس أسعد زغيب، كيف ضاق هذا المبنى الذي بالكاد يتسع اليوم لمكاتب البلدية، بجميع المراكز الرسمية، فبعد الاستقلال اصبح مركزا للمحافظة، العدلية، الدوائر العقارية، المساحة، السجن، وغيرها. وعن السراي الجديد، يقول: “تمّ بناء السراي الجديد في عهد محافظ البقاع نصري سلهب، وقد دشنه الرئيس فؤاد شهاب عام 1961. وتم في ما بعد بناء العدلية، وهكذا أفرغ المبنى القديم من جميع الدوائر الرسمية والمؤسسات باستثناء بلدية زحلة، وسجن زحلة المركزي لمحافظة البقاع. وهو عبارة عن غرفة لا تزيد مساحتها عن ال 200 متر مربع.
وبعض الغرف الخاصة برئيس السجن والحراس. وبعدما توليت رئاسة البلدية عام 1998 طالبنا بنقل السجن الى مبنى خاص، ليصبح المبنى خاصًا فقط ببلدية زحلة. وحصلنا على قرار من مجلس الوزراء يقضي بنقل السجن. وقبل ان تنتهي ولايتي الثانية لرئاسة بلدية زحلة عام 2010، بأسبوع واحد فقط تمّ تنفيذ القرار بنقل السجن. وخلال تلك الفترة قمت بوضع خرائط ودراسة لترميم المبنى لها علاقة بكيفية تنظيمه لتسهيل الأمور أمام المواطن الذي يقصد البلدية”.
قبل الدخول في تفاصيل عملية الترميم، لا بد من لمحة عن تاريخ الفنّ المعماري الذي رافق تلك الحقبة.
الخصائص المعمارية:
يعود المهندس جورج قرطاس الى تاريخ الفنّ القديم ليطلعنا على خصائص مبنى السراي القديم، الذي قام بدراسته عن كثب خلال عمله كمهندس في بلدية زحلة – معلقة منذ العام 1966 حتى 1980. فملاحظاته للبناء الذي شيّد في العهد العثماني، كفيلة بتحديد مظهر البناء وتصنيف عمارته تحت عنوان : الأسلوب الكلاسيكي.
من أجل التعمق بتفاصيل البناء ومظهره الكلاسيكي، يشرح المهندس قرطاس بشكل مقتضب كيف تطور فن العمارة من العصور القديمة الإغريقية واليونانية وكيف تطور خلال الحقبة الرومانية، ويشرح عن خصائص الطراز الدوري Doric، اليوني Ionic، الكورنثي Corinthian، والقوطي Gothic ليتطور الفن في ما بعد وكيف توظفت خصائصها في عصر النهضة حيث كانت هناك عودة الى العصر الروماني لكن بشكل كلاسيكي. وقد تأثرت فرنسا خلال القرن التاسع عشر بكلمن الطراز القوطي والكلاسيكي. مما يعني ان الاسلوب الكلاسيكي هو اسلوب روماني قديم تطور خلال القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، في عصر النهضة.